الركن الثاني: الداعي إلى الله
الركن الثاني من أركان الدعوة هو الداعي إلى الله والمراد به كل مسلم حمل أمانة الدعوة، ودخل في قوله تعالى: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني، وسبحان الله وما أنا من المشركين} (يوسف:108).
والواجبات التي يجب توفرها في الداعي إلى الله هي:
1) العلم بما يدعو إليه:
الواجب الأول الذي يجب توفره في الداعي إلى الله أن يكون عالماً بما يدعو إليه، موقناً أن الذي يدعو إليه هو الإسلام. ولأن الإسلام دين متين يشمل جميع عمل الإنسان وعلاقاته بربه ثم بجميع المخلوقات، والعالم من حوله، والعلوم التي جاء بها الدين واسعة جداً فالغيب الذي أخبرنا الله به يبدأ من بدايات الخـلق إلى نهاية الدنيا، مروراً بكل الرسالات والنبوات، ووصولاً إلى أحوال المعـاد والجنة والنار.. ثم إن الشريعة التي فرضها الله علينا تنتظم جميع أعمال المكلفين وتصرفاتهم على الأرض، وحلاً لجميع مشكلاتهم، وقضاءً لجميع أقضياتهم.. ولأن هذا العلم من الاتساع والشمول والعمق مما لا يحيط به إلا الأفذاذ من الرجال، ولا يجمعه إلا الفحول من العلماء ولا يفقهه حق الفقه إلا الأفراد من الراسخين في العلم.. كان لا بد للداعي إلى الله أن لا يهجم على أمر من أمور الدين إلا بعد العلم به، ولا يفتي في مسألة إلا بعد فقه أبعادها ولا يدعو الناس إلا بعد العلم أن ما يدعو إليه هو ما أمر به الله ورسوله ولا ينهى عن شيء إلا بعد العلم أن ما ينهى عنه هو مما نهى الله ورسوله عنه.
ولا يجوز أن تجعل الأمور الاجتهادية، وما لا نص فيه في منزلة الأمور المنصوص عليها المقطـوع بها.. ويجب على الداعي أن يضع كل أمر في نصابه، ودليل هذا كله قوله تعالى:{قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني} (يوسف:108) فالبصيرة العلـم، وكذلك قوله: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة} (النحل:125) فما لم يكن من سبيل الله لا يجوز الدعوة إليه، وما لم يعلم أنه من سبيل الله لا يجوز أن يدعى إليه.
والدعوة على جهل تؤدي إلى فساد الدين فكثيرون دعوا على جهل فضلوا وأضلوا..
وسبيل العلم هو المربي والكتاب والمنهج، وقد سئل شيخنا عبدالعزيز بن باز حفظه الله عن الكتب التي يجب على الداعي إلى الله أن يتعلمها فقال:
"أعظم كتاب وأشرف كتاب أنصح به هو كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فأنصح كل داع إلى الله، وكل آمر بالمعروف وناه عن المنكر، ومعلم، ومدرس، ومرشد، ذكراً كان أو أنثى، أن يعتني بكتاب الله ويتدبره، ويكثر من قراءته، فهو أصل كل خير، وهو المعلم وهو الهادي إلى الخير، كما قال عز وجل: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} (الإسراء:89).
وهو يهدي بهداية الله إلى الطريق الأقوم إلى سبيل الرشاد، فالواجب على الدعاة والآمرين بالمعروف والمعلمين، أن يجتهدوا في قراءته وتدبر معانيه، فإنهم بذلك يستفيدون الفائدة العظيمة، ويتأهلون بذلك للدعوة والتعليم بتوفيق الله عز وجل.
ثم أنصح بالسنة، وما جاء فيها من العلم والهدى، وأن يراجع الداعي إلى الله والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر والمدرس ذكوراً وإناثاً كتب الحديث، وما ألفه الناس من هذا ،حتى يستفيد من ذلك، وأهم كتب الحديث وأصحها، صحيح البخاري، وصحيح مسلم، فليكثر من مراجعتهما، والاستفادة منهما، ومن بقية كتب الحديث كالسنن الأربع، ومسند الإمام أحمد، وموطأ الإمام مالك، وسنن الدارمي وغيرها من كتب الحديث المعروفة كما أوصي بمراجعة كتب أهل العلم المفيدة، مثل المنتقى للمجد ابن تيمية، ورياض الصالحين، وبلوغ المرام، وعمدة الحديث، وجامع العلم وفضله لابن عبدالبر، وجامع العلوم والحكم للحافظ ابن رجب، وزاد المعاد في هدي خير العبـاد للعلامة ابن القيم، وأعلام الموقعين، وطريق الهجرتين، والطرق الحكمية كلها له أيضاً..
وكذلك ما كتبه أبو العباس شيخ الإسـلام ابن تيمية في السياسة الشرعية، والحسبة في الفتاوى، ومنهـاج السنة، فهو من الأئمة العظماء الذين جربوا هذا الأمر، وبرزوا فيه، ونفع الله به الأمة ونصر به الحق، وأذل به البدع وأهلها فجزاه الله وإخوانه العلماء عن صبرهم وجهادهم أفضل ما جزي به المحسنين إنه جواد كريم ..
فأنا أنصح كل مسلم، وكل معلم، وكل مرشد أن يعتني بهذه الكتب المفيدة بعد العناية بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم..
2) العمل بما يدعو إليه:
الواجب الثاني الذي يجب للداعي أن يكون عامـلاً بما يدعو الناس إليه، فإذا دعا غيره إلى خير كان أسبق الناس إليه، وإذا نهاهـم عن شر كان أبعد الناس منه، ودليل هذا قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون* كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} (الصف:2-3) وقوله تعالى: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون} (البقرة:44).
وقوله تعالى عن شعيب: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} (هود:81) وفي الحديث الصحيح: [يؤتى بالرجل يوم القيامة فتندلق أقتابه في النار، فيدور بها كما يدور الحمار برحاه فيجتمع أهل النار عليه فيقولون أي فلان ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه] (متفق عليه).
قال شيخنا عبدالعزيز بن باز حفظه الله: "ومن الأخلاق والأوصاف التي ينبغي، بل يجب أن يكون عليها الداعية، العمل بدعوته، وأن يكون قدوة صالحة فيما يدعو إليه، ليس ممن يدعو إلى شيء ثم يتركه، أو ينهى عن شيء ثم يرتكبه، هذه حال الخاسرين نعوذ بالله من ذلك، أما المؤمنون الرابحون فهم دعاة الحق يعملون به وينشطون فيه ويسارعون إليه، ويبتعدون عما ينهون عنه قـال الله جل وعلا: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} (الصف:2-3).
هذه الآية العظيمة تبين لنا أن الداعي إلى الله عز وجل ينبغي أن يكون ذا عمل صالح يدعو إلى الله بلسانه، ويدعو إلى الله بأفعاله أيضاً، ولهذا قال بعده "وعمل صالحاً"، فهو داعية إلى الله باللسان، وداعية بالعمل ولا أحسن قولاً من هذا الصنف من الناس: هم الدعاة إلى الله بأقوالهم الطيبة، وهم يوجهون الناس بالأقوال والأعمال، فصاروا قدوة صالحة في أقوالهم وأعمالهم وسيرتهم.
وهكذا كان الرسل عليهم الصلاة والسلام دعاة إلى الله بالأقوال والأعمال، والسيرة.. وكثير من المدعوين ينتفعون بالسيرة أكثر مما ينتفعون بالأقوال، ولا سيماً العـامة وأرباب العلوم القاصرة فإنهم ينتفعون من السيرة والأخلاق الفاضلة والآمال الصالحة، ما لا ينتفعون من الأقوال التي قد لا يفهمونها، فالداعي إلى الله عز وجل من أهم المهمات في حقه أن يكون ذا سيرة حسنة، وذا عمل صالـح، وذا خلق فاضل حتى يقتدي بفعاله وأقواله" (من أقوال الشيخ بن باز ص/65-66).
3) احتساب أجر الدعوة إلى الله:
يجب على الداعي إلى الله أن يكون محتسباً لا يطلب على دعوته أجراً. قال تعالى: {قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين} (ص:86) وحتى لا يتهم في دعوته، وأنه لم يدع إلا للدنيا، ولذلك أمر الله جميع رسله أن يقولوا {وما أسألكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العالمين} (الشعراء:109).
وأتباع الرسل والأنبياء يجب أن يأتسوا بهم في دعوتهم إلى الله فتكون دعوتهم إلى الله من أجل دينه، واحتساباً لله، وبهذا تجد دعوتهم القبول، وتنتفي عنهم الظنة ويكونون بعيدين عن الشبهة.
قال شيخنا عبدالعزيز بن عبدالله بن باز حفظه الله: "أما أخلاق الدعاة وصفاتهم التي ينبغي أن يكونوا عليها فقد أوضحها الله جل وعلا في آيات كثيرة في أماكن متعددة من كتابه الكريم (أولاً) منها:
* الإخلاص: فيجب على الداعية أن يكون مخلصاً لله عز وجل لا يريد رياء ولا سمعة ولا ثناء الناس ولا حمدهم، إنما يدعو إلى الله يريد وجهه عز وجل، كما قال سبحانه وتعالى: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله} (يوسف:108) ..وقال عز وجل: {ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله} (فصلت:33) فعليك أن تخلص لله عز وجل، هذا أهم الأخلاق، هذا أعظم الصفات أن تكون في دعوتك تريد وجه الله والدار الآخرة" (الدعوة وأخلاق الدعاة ص/36-37).
ولا شك أن إخلاص الداعية لله في دعوته هو من سر النجاح فيها، ووضع القبول له في الأرض.
قال الإمام الذهبي رحمه الله: "كان السلف يطلبون العلم لله فنبلوا وصاروا أئمة يقتدى بهم، وطلبه قـوم منهم أولاً لا لله، وحصلوه، ثم استفاقوا وحاسبوا أنفسهم فجرهم العلم إلى الإخلاص في أثناء الطريق، كما قال مجاهد وغيره: طلبنا هذا العلم وما لنا فيه كبير نية، ثم رزق الله النية بعد، وبعضهم يقول: طلبنا هذا العلم لغير الله، فأبى أن يكون إلا لله. فهذا أيضاً حسن، ثم نشروه بنية صالحة .
وقـوم طلبوه بنية فاسدة لأجل الدنيا وليثنى عليهم، فلهم ما نووا: قال عليه السلام: [من غزا في سبيل الله ولم ينو إلا عقـالاً فله ما نوى] (رواه أحمد والنسائي والحاكم وصححه الألباني في الجامع 6401).
وترى هذا الضرب لم يستضيئوا بنور العلم، ولا لهم وقع في النفوس، ولا لعلمهم كبير نتيجة من العمل، وإنما العالم من يخشى الله تعالى.
وقوم نالوا العلم وولوا به المناصب، فظلموا، وتركوا التقيد بالعلم وركبوا الكبائر والفواحش، فتباً لهم، فما هؤلاء بعلماء!
وبعضهم لم يتق الله في علمه بل رَكِبَ الحيل، وأفتى بالرخص، وروى الشاذ من الأخبار، وبعضهم اجترأ على الله، ووضع الأحاديث فهتكه الله، وذهب علمه، وصار زاده إلى النار، وهؤلاء الأقسام كلهم رووا من العلم شيئاً كبيراً، وتضلعوا منه في الجملة، فخلف من بعدهم خلف بان نقصهم في العلم والعمل، وتلاهم قوم انتموا إلى العلم في الظاهر، ولم يتقنوا منه سوى نزر يسير، أوهموا به أنهم علماء فضلاء، ولم يدر في أذهانهم قط أنهم يتقربون به إلى الله لأنهم ما رأوا شيخاً يقتدى به في العلم، فصاروا همجاً رعاعاً، غاية المدرس منهم أن يحصل كتباً مثمنة يخزنها، وينظر فيها يوماً ما، فيصحف ما يورده ولا يقرره، فنسأل الله النجاة والعفو" (سير أعلام النبلاء 7/152-153).
قـال عبدالله بن المبارك: "قيل لحمدون بن أحمد: ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا؟ قال: لأنهـم تكلموا لعز الإسلام ونجاة النفوس، ورضا الرحمن، ونحن نتكلم لعز النفوس وطلب الدنيا ورضا الخلق" (صفوة الصفوة 4/122).
4) الصبر على الأذى:
لا بد للداعي إلى الله من التحلي بالصبر لأنه لا بد وأن يؤذى في دعوته فكل الرسل قد عودوا، وقد قال ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه وسلم: (لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي) (متفق عليه)..
قال تعالى: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هادياً ونصيراً} (الفرقان:31).
وقال صلى الله عليه وسلم: [أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل] (رواه ابن حبان في صحيحه، وصححه الألباني في صحيح الجامع 993).
ومن أجـل ذلك قرن الله الصبر مع التواصي بالحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال تعالى: {والعصر* إن الإنسان لفي خسر* إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} (العصر:1-3).. وقال تعالى عن لقمان وهو يعظ ابنه: {يا بني أقم الصلاة، وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور} (لقمان:17).
والرسـل أوذوا من الكفار المعلنين للكفر، ومن أهل النفاق ومن أهل الجهل، والحمق كذلك ممن يظهر الدين!!
وقد أوذي سيـد البشر، وخاتم الرسل وإمام المتقين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم من المشركين واليهـود والنصارى كما لقي أيضاً من المنافقين أذى كبيراً فقد كان منهم من قـال في حقه: (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل)، وكان منهم من سب زوجته، وآذاه في أهله ومنهم من قال: (هو أذن)، ومنهم من تآمر على قتله.. الخ.
كمـا أؤذي صلى الله عليه وسلم من بعض الجهال الحمقى من أمثال من قال له: (اعدل يا محمد فوالله هذه قسمة ما أريد بها وجه الله) (متفق عليه).
وكذلك أوذي خيار أصحابه من بعده، وما زال الصديق والفاروق يسبان أشد السب إلى يومنا هذا..
فالداعي إلى الله لا بد وأن يؤذى، ويبتلى. فإذا كان الداعي إلى الله من أهل الصبر استمر في دعوته، وإن كان من أهل الجزع والضعف والخور، ترك الدعوة إلى الله وإن كان من أهل الحمق والجهل ربما اعتدى على من يدعوهم، وانتصر لنفسه فأفسد دعوته، وأبطل جهاده في سبيل الله.
5) الحرص على هداية من يدعوه:
الواجب الخامس الذي يجب توفره في الداعي إلى الله أن يكون حريصاً على هداية من يدعوه فإذا كان من يدعوه كافراً كان حريصاً على إيمانه ساعياً في ذلك بكل سبيل، وقد كان سيد الدعاة والمهتدين وهو نبينا صلى الله عليه وسلم ليحزن أشد الحزن حتى يكاد يقتله الغم أسفاً على نفور الناس من دعوته..
قال تعالى معزياً ومعاتباً له: {لعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً} (الكهف:6)..
وقد وصفه تعالى بالحرص على هداية الناس. قال تعالى:{لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم} (التوبة:128).. وقال تعالى: {إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل} (النحل:37)..
والداعي إذا كان حريصاً على هداية من يدعوه سعى إلى ذلك بكل سبيل ولم يدخر وسعاً في إيصال الحق له، واستخدم معه كل وسيلة ناجعة، وأزال كل عقبة تصده عن الحق.
وأما إذا اتصف بضد ذلك أهمل في دعوة من يدعوه، ولم يكترث لهدايته أو ضلاله..
وإذا كان من تدعوه مسلماً وكنت حريصاً على أن يهتدي للحق الذي تدعوه إليه، وللمعروف الذي تأمـره به، حملك هذا على إخلاص النية، وبذل قصارى الجهد، والفرح بهداية من تدعوه، والحزن إذا لم يستجب لك.
6) اتخاذ الحكمة منهجاً وسبيلاً:
أمر الله سبحانه وتعالى أن تكون الدعوة إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالحسنى، قال تعالى: {وادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}.
* قال فيلسان العرب:
الحكمة: هي العدل، ورجل حكيم، عدل حكيم، واحكم الأمر أتقنه، ويقال للرجل إذا كان حكيماً: قد أحكمته التجارب.. والحكيم المتقن للأمور.
وأصله من المنع: ومنه قوله الشاعر
بني حنيفة أَحكموا سفهاكم *** أني أخاف عليكم أن أغضبا
أي ردوهم وكفوهم.
ومنه حَكَمَةُ اللجام ما أحاط بحنكي الدابة، وسميت حكمة لأنها تمنعها من الجري الشديد.. والحكمة مانعة لصاحبها من الوقوع في الخطأ.
* معنى الحكمة في الشرع:
قال الإمام ابن جرير رحمه الله: "القول في تأويل قوله تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلـم بمن أضل عن سبيله، وهو أعلم بالمهتدين}.
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {ادع} يا محمد من أرسلك إليه ربك بالدعاء إلى طاعته {إلى سبيل ربك} يقول: إلى شريعة ربك التي شرعها لخلقه، وهو الإسلام {بالحكمة} يقول بوحي الله الذي يوحيه إليك، وكتابه الذي نزله عليك {والموعظة الحسنة} يقول: وبالعبر الجميلة التي جعلها الله حجة عليهم في كتابه، وذكرهم بها في تنزيله، كالتي عدد عليهم في هذه السورة من حججه، وذكرهم فيها ما ذكرهم من آلائه {وجادلهم بالتي هي أحسن} يقول: وخاصمهم بالخصومة التي هي أحسن من غيرها أن تصفح عما نالوا به عرضك من الأذى، ولا تعصه في القيام بالواجب عليك من تبليغهم رسالة ربك".
وقال الإمـام برهان الدين البقاعي في نظم الدرر: "{ادع} أي كل من يمكن دعوته.. {إلى سبيل ربك} أي المحسن إليك، بتسهيل السبيل الذي تدعو إليه واتساعه، وهو الإسلام الذي هو الملة الحنفية.. {بالحكمة} وهي المعرفة بمراتب الأفعال في الحسن، والقبح، والصلاح، والفساد، وقيل لها حكمة لأنها بمنزلة المانع من الفساد، وما لا ينبغي أن يختار، فالحكيم هو العالم بما يمنع من الفساد، قال الرماني، وهي في الحقيقة الحق الصريح، فمن كان أهلاً له دعا به {والموعظة} بضرب الأمثال والوعد، والوعيد مع خلط الرغبة بالرهبة والإنذار بالبشارة.. {الحسنة} أي التي يسهل على كل فهم ظاهرها، ويروق كل نحرير ما ضمنته سرائرها، مع اللين في مقصودها، وتأديتها هذا لمن لا يحتمل إلا ذلك.. {وجادلهم} أي الذين يحتملون ذلك منهم افْتِلهم عن مذاهبهم الباطلة إلى مذهبك الحق بطريق الحجاج.. {بالتي هي أحسن} من الطرق بالترفق واللين والوقار، والسكينة، ولا تعرض عنهم، ولا تجازهم بسيء مقالهم، وقبيح فعالهم صفحاً عنهم ورفقاً بهم، فهو بيان لأصناف الدعوة بحسب عقول المدعوين لأن الأنبياء عليهم السلام مأمورون بأن يخاطبوا الناس على قدر عقولهم" أ.هـ
وقال الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله في تفسيره في بيان معنى الحكمة: "{بالحكمة} أي كل أحد على حسب حاله وفهمه، وقبوله وانقياده، ومن الحكمة، الدعوة بالعلم لا بالجهل، والبدأة بالأهم فالأهم، وبالأقرب إلى الأذهان والفهم، وبما يكون قبوله أتم، وبالرفق واللين، فإن انقاد بالحكمة، وإلا فينتقل معه إلى الدعوة بالموعظة الحسنة، وهو الأمر، والنهي المقرون بالترغيب والترهيب، إما تشتمل عليه الأوامر من المصالح وتعدادها، والنواهي من المضار وتعدادها، وإما بذكر إكرام من قام بدين الله، وإهانة من لم يقم به، وإما بذكر ما أعد الله للطائعين، من الثواب العاجل والآجل، وما أعد للعاصين من العقاب العاجل والآجل، فإن كان المدعو، يرى أن ما هو عليه حق، أو كان داعيه إلى الباطل، فيجادل بالتي هي أحسن، وهي الطرق التي تكون ادعى لاستجابته عقلاً ونقلاً، ومن ذلك الاحتجاج عليه بالأدلة التي كان يعتقدها، فإنه أقرب إلى حصول المقصود، وأن لا تؤدي المجادلة إلى خصام أو مشاتمة، تذهب بمقصودها ولا تحصل الفائدة منها، بل يكون القصد منها هداية الخلق إلى الحق لا المغالبة ونحوها". (تفسير السعدي 3/92-93).
وقال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز -حفظه الله-:
"ومن الحكمة إيضاح المعنى وبيانه بالأساليب المؤثرة التي يفهمها المدعو وبلغته التي يفهمها حتى لا تبقى عنده شبهة، وحتى لا يخفى عليه الحق بسبب عدم البيان، أو بسبب عدم إقناعه بلغته، أو بسبب تعارض بعض الأدلة، وعـدم بيان المرجح، فإذا كان هناك ما يوجب الموعظة وعظ وذكر بالآيات الزواجر، والأحاديث التي فيها الترغيب والترهيب، حتى ينتبه المدعو، ويرق قلبه، وينقاد للحق، فالمقام قد يحتاج فيه المدعو إلى موعظة وترغيب وترهيب على حسب حاله، وقد يكون مستعداً لقبول الحق، فعند أقل تنبيه يقبل الحق، وتكفيه الحكمة، وقد يكون عنده بعض التمنع، وبعض الإعراض فيحتاج إلى وعظة وإلى توجيه وإلى ذكر آيات الزجر" (من أقوال الشيخ ابن باز في الدعوة ص/64).
ومما سبق يتبين أن الحكمة تأتي لمعان كثيرة:
1) ما تضمنه كتاب الله سبحانه وتعالى من الدعوة إلى الإيمان بالله وعبادته والتزام صراطه المستقيم، ودينه القويم ، فالآخذ بهذا قد أحكم أمره، وعرف طريقه، وبهذا فسر ابن جرير الطبري معنى {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة} أي ما تضمنه هذا القرآن الكريم.
2) سنة النبي صلى الله عليه وسلم وقد جاءت الحكمة معطوفة على الكتاب كثيراً في القرآن كما قال تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة} (آل عمران:164).
فالحكمة هنا هي بيان القرآن الكريم وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
3) الحكمة يعنى وضع الأمور في نصابها، والوصول إلى الأهداف المطلوبة بأيسر الطرق وأحسنها كما أمر الله باللين في الدعوة مع الجبابرة: {فقولا قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى} وبالشدة في مواطنها كما قال تعالى: {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير}.. وبالعفو واللين في مواطنه {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك}.
والخلاصة أن الحكمة وصف جامع للعلم النافع الذي يمكن صاحبه من وضع كل أمر في نصابه، مما ييسر له الوصول إلى أفضل النتائج بأيسر السبل.
الركن الثالث: المدعو
1) عالمية الرسالة:
رسالة الإسلام رسالة للعالمين قال تعالى: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً} (الأعراف:158).. وقال تعالى: {لأنذركم به، ومن بلغ} (الأنعام:19).. وقال تعالى: {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً} (سبأ:28)..
وقـال تعالى: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً} (الفرقان:1) ومن أجل ذلك فالبشر جميعاً مدعون إلى هذا الدين، والناس جميعاً هم أمة الدعـوة الذين أرسل إليهم رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم .
2) أقسام الناس حيال رسالة الإسلام:
جاء الإسلام بنسخ جميع الشرائع السماوية التي قبله، ووجوب دخول اليهود والنصارى في شريعة الله المنزلة على محمد صلى الله عليه وسلم، واتباعه في القليل والكثير.. وقد انقسم الناس بعد دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قسمين:
* قسم آمن به واتبع ما جاء به من الهدى والنور..
* وقسم كفر بالإسلام وجحد ما أنزل الله على رسوله..
وهذا القسم الأخير افترقوا فريقين: كفار معلنين لكفرهم، وكفار تظاهروا بالإسلام، وأضمروا الكفر، وقد سماهم القرآن بالمنافقين..
وقد أنزل الله سبحانه وتعالى الأحكام التي يجب اتباعها مع كل قسم من هذه الأقسام، ورسم رسـول الله صلى الله عليه وسلم السياسة الشرعية الواجبة في دعوة هذه الأقسام إلى الله وكيفية التعامل مع كل قسم منهم.
وهذه هي الأصول العامة والسياسة الشرعية في الدعوة والمعاملة مع هذه الأقسام:
أولاً: الأصول الشرعية في دعوة الكفار الأصليين للإسلام:
من الكفار الأصليين من بلغه دعوة الإسلام على الوجه الصحيح، ومنهم بلغته دعوة الإسلام بصورة مشوهة، ومنهم من لم تبلغه دعوة الإسلام..
ومن الكفار الأصليين أهل الكتاب من اليهود والنصارى، والوثنيون والمجوس وغيرهم من أتباع هذه الملل الكثيرة، ومنهم من لا ينتمي لدين أصلاً.
والأصول التي يجب اتباعها مع هؤلاء جميعاً هي:
1) إبلاغ دعوة الإسلام على وجهها الصحيح بلاغاً يقطع العذر:
الأصل الأول في دعوة المسلمين إلى الإسلام أن يبلغوا هذه الدعوة على وجهها الصحيح بلاغاً يقطع العذر كما جاءت في كتاب الله وسنة رسـوله صلى الله عليه وسلم، ولا تقوم الحجة عليهم إلا بهذا.. قال تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} (المائدة:67).. وقال تعالى: {وما على الرسول إلا البلاغ المبين} (النور:54)..
ولا يكون البلاغ مبيناً قاطعاً للعذر إلا:
أ) إذا فهموه بلغتهم أو تمكنوا من العربية تمكناً يجعلهم يفهمون معانيها كما قال تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم} (إبراهيم:4)..
فالواجب على أمة الإسلام الذين أخرجهم الله للناس أن يبلغوهم دين الله باللسان الذي يفهمونه ثم يعلموهم العربية ليفهموا عن الله ورسوله..
قال شيخنا الشيخ عبدالعزيز بن باز حفظه الله: "أما بالنسبة إلى ولاة الأمور، ومن لهم القدرة الواسعة، فعليهم من الواجب أكثر، وعليهم أن يبلغوا الدعوة إلى ما استطاعوا من الأقطار حسب الإمكان بالطرق الممكنة وباللغات الحية التي ينطق بها الناس، يجب أن يبلغوا أمر الله بتلك اللغات حتى يصل دين الله إلى كل أحد باللغة التي يعرفها، باللغة العربية وبغيرها" (الدعوة إلى الله وأخلاق الدعاة ص/17).
ب) إبطال شبهات الكفار، ودفع باطلهم:
ويجب أن تدحض كل حجج الكفار وشبهاتهم حول دينهم الباطل، وكل دين غير الإسـلام فباطل كما قال تعالى: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه} (الأنبياء:18).. وقال تعالى: {قل فلله الحجة البالغة} (الأنعام:149).. وقال تعالى: {ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً} (الفرقان:33)..
ومن أجل ذلك أبطل الله في القرآن كل ما احتج به الكفار على اختلاف عقائدهـم في احتجاجهم لدينهم الباطل، فقد رد الله على اليهود مزاعمهم، وعلى النصارى ضلالهم وشبههم، وعلى مشركي العـرب في جميع ما عارضوا به الإسلام، وعلى ما احتجوا به على ما هم عليه من الشرك والضلال.
2) لا يبدأ مع الكافر الأصلي إلا بالتوحيد ثم الأهم فالأهم:
يجب البدء مع الكافر الأصلي الذي لم يدخل الإسلام بالتوحيد لأنه أساس الدين، وجميع الأحكام ترجع إليه، ولا يصح العمل الصالح إلا به ولذلك كان كل رسول أول ما يدعو قومه يدعوهم إلى توحيد الله سبحانه وتعالى.
إذ هو الفارق بين المسلم والكافر، وجميع أعمال الدين ترجع إلى التوحيد، وتبنى عليه، فلا يصح عمل صالح للعبد إلا بتحقيق التوحيد لله، وجميع الأعمال الصالحة تكون باطلة إذا لم يكن فاعلها موحـداً لله سبحانه وتعالى كما قال جل وعلا في عمل المشركين والكفار: {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه، والله سريع الحساب} (النور:39)..
وقال تعالى: {مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء، ذلك هو الضلال البعيد} (إبراهيم:18).
وقال تعالى: {ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين} (الزمر:65)..
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل عندما أرسله داعياً إلى أهل اليمن أن يبدأ بالتوحيد ثم بالصلاة، ثم بالزكاة فقد قال صلى الله عليه وسلم: [إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهـم إلى أن يوحدوا الله تعالى فإذا عرفوا ذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا صلوا، فأخبرهم أن الله قد افترض عليهم زكاة في أموالهم تؤخذ من غنيهم فترد على فقيرهم فإذا أقروا بذلك فخذ منهم، وتوق كرائم أموال الناس] (متفق عليه).
قال ابن حجر في الفتح: "بدأ بالشهادتين لأنهما أصل الدين، الذي لا يصح شيء إلا بهما، فمن كان غير موحـد فالمطالبة متوجهة إليه بكل واحدة من الشهادتين على التعيين، ومن كان موحداً فالمطالبة له بالجمع بين الإقرار والوحدانية".
وقال: "يبدأ بالأهم فالأهم، وذلك من التلطف في الخطاب لأنه لو طالبهم بالجميع لأول مرة لم يأمن النفرة" (الفتح 3/357).
3) عرض الدعوة على الكفار باللين، والحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال بالحسنى:
في مقام عرض دعوة الإسلام على الكفار، وإن كانوا من المجرمين العتاة، والجبابرة الطغاة يجب اتخاذ اللين والحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالحسنى سبيلاً إلى عرض الدعوة، والدليل على هذا وصية الله لموسى وهارون أن يعرضا الدعوة على فرعون باللين.. قال تعالى: {إذهبا إلى فرعون إنه طغى، فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى } (طه:43-44).
فمع طغيانه وقتله لذكور بني إسرائيل،واستحيائه لنساءهم، وسومهم رسولهم سوء العذاب إلا أن الله أمر الرسول عليه السلام أن يكون ليناً في عرض الدعوة عليه، ولعل اللين أن ينفعه فيتذكر ويخشى.
وقـال تعالى أيضاً :{ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} (النحل:125).. وقال تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم} (العنكبوت:46).
4) وجوب رد إساءتهم وعدم السكوت على طعنهم في الدين:
لا يجوز للداعي إلى الله الذي يعرض دعوته باللين والحكمة على الكفار أن يأخذ جانب اللين مع الذين يردون رداً سيئاً، ويطعنون في الدين الحق، ويسبون رسول الله، أو يعيبون شريعة الله، بل يجب الرد المناسب عليهم والانتصار منهم لقوله تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم} (العنكبوت:46).
فالظالمون منهم يجب الرد بما يتناسب مع هجومهم وتهجمهم على الإسلام وطعنهم فيه. قال تعالى: {والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون} (الشورى:39).. ولذلك جاء في كثير من آيات القرآن الرد والزجر الشديد على المعاندين من الكفار: كبيان فضائحهم، وكشف مخازيهم ووصفهم بفقدان العقل والفهم، والاستهزاء بحالهم ومآلهم، وتحقير آلهتهم، وتهديدهم بعذاب الدنيا والآخرة.
5) قبول الكافر أخاً في الإسلام مهما سلف منه في الكفر:
يجب أن يقبل الكافر أخاً في الدين إذا انتقل من الكفر إلى الإسلام، فلا يعير بدينه السابق، ولا بما كان عليه من الكفر والشرك، ولا يذكر بماضيه إلا أن يكون على وجه حمد الله وشكره وفضله عليه كما قال تعالى عن المشركين: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين، ونفصل الآيات لقوم يعلمون} (التوبة:11).
* أصول في دعوة المرتد:
المرتد: هو كل من رجع عن الإسلام بعد دخوله فيه، وللمرتد أحكام خاصة في الدعوة منها:
1) لا حكم بالردة إلا من عالم بالإسلام:
لا يجوز الحكم على مسلم بالردة إلا إذا أعلن بنفسه هو أنه راجع عن الإسلام أو أن يكون قوله أو فعله كفراً مخرجاً من الملة، ولا يحكم عليه بالردة إلا عالم بالإسلام وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: [من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا رجعت عليه] (متفق عليه)..
2) يجب التفريق بين مقالة الكفر والكافر:
ليس كل من وقع في الكفر يكون كافراً فربما وقع جهلاً أو تأولاً ولذلك يجب الرد على المخالف، وإقامة الحجة بيان المقالة الخاطئة، دون الحكم على قائلها حتى يتبين أنه قد اختار الكفر، أو أقيمت عليه الحجة البالغة التي تقطع عذره..
* أصول في دعوة المنافق:
المنافق: هو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر، وهذه بعض الأصول الشرعية في دعوته للإسلام:
1) لا يحكم على شخص أنه منافق نفاقاً اعتقادياً إلا ببرهان لا يقبل النقض أنه يبطن الكفر، ويظهر الإسلام كذباً..
2) المنافق يدعى إلى الإسلام، ويوعظ ،ويذكر بالله، ويجري عليه أحكام الإسلام الظاهرة، ويغلظ عليه عند مخالفة الأمر الشرعي. قال تعالى:{أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً} (النساء:6) {جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم} (التوبة:73).
قال ابن كثير: "قال تعالى {أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم} هذا الضرب من الناس هم المنافقون، والله يعلم ما في قلوبهم وسيجزيهم على ذلك فإنه لا تخفى عليه خافية فاكتف به يا محمد فيهم فإنه عالم بظواهرهم وبواطنهم، ولهذا قــال له {فأعرض عنهم} أي لا تعنفهم على ما في قلوبهم {وعظهم} أي واتهمهم عما في قلوبهم من النفاق وسرائر الشر {وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً} أي وانصحهم فيما بينك وبينهم بكلام بليغ رادع لهم".
ثانياً: الدعوة بين المسلمين:
للدعوة إلى الله بين المسلمين ميدانان هما:
أ) التربية والتعليم.
ب) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولكل ميدان من هذين الميدانين أصوله وقواعده.
أ) قواعد في التربية على الإسلام وتعليمه:
التربية وهي التزكية والتعليم، هي مهمة النبي في المؤمنين قال تعالى: {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته، ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} (الجمعة:2)..
والتربية هي تنشأة الإنسان وبناؤه.. قال رسول صلى الله عليه وسلم: [ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه] (متفق عليه).
وهذه أهم قواعد التربية والتزكية:
1) تصور النموذج المثالي للإنسان الكامل والعبد الصالح:
يجب أولاً أن يتضح أمام المربي والمعلم النموذج والمثال الذي يجب أن يربى على غراره، وهذا النموذج قد جاء وصفه التفصيلي في آيات كثيرة من كتاب الله سبحانه وتعالى منها أول سـورة المؤمنون.. قال تعالى: {قد أفلح المؤمنون* الذين هم في صلاتهم خاشعون* والذين هم عن اللغو معرضون* والذين هم للزكاة فاعلون* والذين هم لفروجهم حافظون* إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين* فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون* والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون* والذين هم على صلواتهم يحافظون} (المؤمنون:1-9).
وفي غيرها من سور القرآن كمطلع سورة البقرة، والآيات الأولى من سورة الأنفال، وسورة الحجرات بكمالها، والآيات من سورة الإسـراء من قوله تعالى: {لا تجعل مع الله إلهاً آخر فتقعد مذموماً مخذولاً} (الإسراء:22) إلى قوله: {ولا تجعل مع الله إلهاً آخر فتلقى في جهنم ملوماً مدحوراً} (الإسراء:39)..
ولا شك أن القرآن كله قد فصل صفات النموذج الطيب للمؤمن الصالح الذي يحبه الله ويرضاه..
وقد كان رسولنا صلى الله عليه وسلم هو الإنسان الكامل والنموذج والقدوة والأسوة الذي أمر المسلمون جميعاً بالتأسي به {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (الأحزاب:21)..
فهو النموذج الكامل للتأسي، وقد كان خلقه القرآن كما قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: [كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن] (رواه أبو داود والنسائي).
وكذلك صور القرآن النماذج السيئة من المجرمين والكافرين والمنافقين. قال تعالى: {وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين} (الأنعام:55)..
2) التعليم الدائم:
يجب على الداعي إلى الله، ومعلم الخير أن يعتمد لنفسه ومن يعلمهم نظام التعليم الدائم من المهد إلى اللحد، والمسلم الحق هو من يزداد في دينه كل يوم علماً وعباده {وقل رب زدني علماً} (طه:114) وعلم الـدين لا يحاط به، والقرآن لا يشبع منه العلماء، وفضل العلم خير من فضل العبادة.
3) أخذ العلم والعمل جميعاً:
يجب أخذ العلـم والعمل جميعاً، وعدم إفراد العلم عن العمل لأن هذا مدعاة لأن يقول المسلم ما لا يفعـل، وأن يصبح العلم حجة على صاحبه لا حجة له، وقد كان منهج الصحابة في التعلم أخذ العلم والعمل جميعاً فقد كان منهم من حفظ سورة البقرة في عدة سنوات ليحفظ السورة وليعلمها، وليعمل بها كما قال الأعمش : (كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن) (تفسير ابن كثير) فتأخذ العلم والعمل جميعاً، وهذا لمن جاوز مرحلة الصغر وسنوات الحفظ الذهبية.
4) اغتنام سني الحفظ الذهبية عند الصغير:
تعليم الصغار يجب أن يكون بالحفظ أولاً اغتناماً لسنوات الحفظ الذهبية وهي من الثالثة إلى العشرين تقريباً.. وقد كان منهج التابعين وتابعيهم تحفيظ الصغير القرآن الكريم أولاً ثم السنة، ثم متون العلوم المختلفة (المتون هي كليات العلوم وقضاياها الأساسية وكثيراً ما تكون نظماً).. ثم في الكبر يعتني بعد ذلك بالفهم والتعلم والتفقه فيما يكون قد حفظه.
5) تعلم الحق قبل الباطل، والتحصن بجواب الشبهة قبل ورودها:
من قواعد التعليم تعلم الحق قبلتعليم الباطل، لأن السابق إلى الذهن يتمكن منه ويستقر فيه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: [ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه] (متفق عليه) والفطرة هي التوحيد. قال تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} (الروم:30).
فيجب تعليم الصغار كلمة التوحيد، وتنشئتهم على الفضيلة، والخلق الطيب قبل إطلاعهم على أنواع الشرك والكفر، ومعرفة الرذيلة..
ثم يجب تعلم جواب الشبهة قبل ورودها تحصناً منها، كما كان الله سبحانه وتعالى يعلم المسلمين ما يقولونه جواباً لشبهات الكفار قبل أن يلقيها الكفار. قال تعالى: {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا} (الأنعام:148) فأخبرهم بقـول المشركين سبحانه، قبل أن يقولـوه ليعلمهم جوابه. وقال تعالى: {سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب..} (البقرة:142) وهذا كثير في القرآن.