إننا أمام حدث من أحداث يوم القيامة، وهولٍ من أهوالها، تفزع منه القلوب، وتوجل منه النفوس، إنه حدث يقرع أسماع أصحاب القبور، فينتفضون من قبورهم، مبهوتين، شعث الرؤوس، غُبْر الأبدان، قد أفزعتهم الصيحة، وأزعجتهم النفخة، وقد صوّر القرآن هذا المشهد تصويرا بليغاً، فقال سبحانه: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ}... (يّـس:51)، وقال تعالى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ}... (المدثر:8 - 9).
فهو حدث عظيم، وأمر جليل، كيف لا وهو مقدمة وبداية ليوم القيامة، الذي تشيب فيه الولدان، و{يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}...(الحج:2).
لقد اهتم القرآن الكريم والسنة النبوية ببيان أمر النفخ في الصور وما يتبع ذلك من أحداث، فمما جاء في السنة أن الصور عبارة عن آلة على شكل قرن ينفخ فيها، وقد ثبت عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما الصور؟، قال صلى الله عليه وسلم: (الصور قرن ينفخ فيه) رواه الترمذي وقال حسن صحيح.
وقد أوكل الله عز وجل أمر النفخ في الصور لإسرافيل عليه السلام، وهو من الملائكة العظام، ومنذ أن أوكل بذلك وهو متهيئ للنفخ فيه، وكلما اقترب الزمان ازداد تهيؤه، قال صلى الله عليه وسلم: (كيف أنعم، وقد التقم صاحب القرن القرن، وحنى جبهته، وأصغى سمعه ينتظر أن يؤمر أن ينفخ فينفخ، قال المسلمون: فكيف نقول يا رسول الله: قال: قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل، توكلنا على الله ربنا) رواه الترمذي وحسنه.
وينفخ في الصور نفختان: النفخة الأولى، وتسمى: نفخة الصعق - الموت - وهي المذكورة في قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ}... (الزمر:68) وبسماع هذه النفخة يموت كل من في السموات والأرض إلا من شاء الله أن يبقيه.
قال صلى الله عليه وسلم: (إن الناس يصعقون، فأكون أول من يفيق، فإذا موسى باطش بجانب العرش، فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي، أو كان ممن استثنى الله) رواه البخاري ومسلم.
وتأتي هذه الصيحة على حين غفلة من الناس وانشغال بالدنيا، كما قال تعالى: {مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ * فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ}.... (يّـس:49-50).
روى الإمام الطبري في تفسيره عن عبد الله بن عمرو، قال: "لينفخن في الصور، والناس في طرقهم وأسواقهم ومجالسهم، حتى إن الثوب ليكون بين الرجلين يتساومان، فما يرسله أحدهما من يده حتى ينفخ في الصور، وحتى إن الرجل ليغدو من بيته فلا يرجع حتى ينفخ في الصور".
أما النفخة الثانية فهي نفخة البعث ،وهي المذكورة في قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ}.... (الزمر: 68).
وهي صيحة توقظ الأموات مما هم فيه، ثم يحشرون بعدها إلى أرض المحشر، وهذه النفخة هي المقصودة بقوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ}... (يـس:51).
أما عن الفترة الزمنية الفاصلة بين النفختين، فقد ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بين النفختين أربعون، قالوا: يا أبا هريرة أربعون يوما، قال: أبيت، قال: أربعون سنة، قال: أبيت، قال: أربعون شهرا، قال: أبيت ،..) رواه البخاري ومسلم.
ومعنى قول أبي هريرة رضي الله عنه: أبيت. أي: أمتنع عن تحديد أي أربعين أراد النبي صلى الله عليه وسلم، لكونه صلى الله عليه وسلم أطلق لفظ أربعين ولم يحدد. والله أعلم.
هذا طرف من أخبار ذلك الحدث، ذكرناه لك - أخي الكريم -، كي تتأمل في هذا اليوم العظيم، وما فيه من المخاوف والأهوال، فتشمر عن ساعد الجد نحو لقاء الله تعالى، فإنه لا نجاة في ذلك اليوم إلا بالإيمان والعمل الصالح.